عثمان الموصلي

عثمان بن عبد الله الطحان الشهير بالموصلي موسيقي عراقي، ولد في مدينة الموصل وتوفي في بغداد. مات أبوه وهو في السادسة من عمره، وفقد بصره قبل أن يبلغ الحلم. احتضنته واعتنت بتربيته وتعليمه أسرتا محمود العمري وعبد الباقي الفاروقي الموصلي، فحفظ القرآن الكريم والسيرة المحمدية والأحاديث النبوية، وكثيراً من الشعر الصوفي، وأتقن أصول التجويد والأناشيد الدينية. ثم عكف على دراسة اللغتين الفارسية والتركية فأتقنهما، ومال إلى الموسيقى، فدرس علومها الشرقية ومقاماتها ونغماتها، وتعلم ذاتياً العزف بالقانون والناي، وكان صوته الجميل ينبئ بالمستقبل الوضاء الذي ينتظره.

حياته

أخلص الموصلي لمربيه محمود العمري وظل وفياً له حتى وفاته، فركبه حزن وهم شديدان لم يبددهما سوى رحيله إلى بغداد حيث حل ضيفاً على أحمد عزت باشا بن محمود العمري الذي فتح له أبواب المجتمع البغدادي الذي تلقفه إعجاباً بصوته وحباً بفنه وإنشاده الرائع للقصة الشريفة، والمقامات العراقية حتى صار المنشد الأول في الحضرة الكيلانية والتكايا والمساجد، وفي احتفالات الموالد الدينية في البيوتات الكبيرة. وفي أثناء إقامته في بغداد اتصل الموصلي بالشيخ داوود، والشيخ بهاء الدين الهندي ـ المدرس في الحضرة العلوية ـ فحفظ عنهما «صحيح البخاري» وقرض الشعر والموشحات باللغات الثلاث (العربية والفارسية والتركية) التي لحَّنها وغنَّاها فجمع من وراء ذلك ثروة أتاحت له أداء فريضة الحج. عاد بعدها إلى الموصل فدرس التجويد بالقراءات السبع، وقرأها في «حيدرة» محمد السيد الحاج حسين أمام جمهور كبير، ثم اتصل بعد ذلك بالشيخ محمد النوري (مرشد الطريقة القادرية) وأخذها عنه.

في أوائل العقد التاسع من القرن التاسع عشر، توجه عثمان الموصلي إلى الأستانة (إصطنبول) التي كان تواقاً لزيارتها، فأقام في غرفة متواضعة في جامع «نور العثمانية» في حي «شنبرلي طاق» قبل أن يعينه السلطان عبد الحميد الثاني المعجب به رئيساً للمحفل الديني في جامع آيا صوفيا، ومعلماً للقراء الأتراك. طاب له العيش في إصطنبول فأرسل وراء أسرته يستدعيها بعد أن أستأجر داراً صغيرة قرب جامع «نور العثمانية» وتعرف رجل الدولة الكبير الشيخ أبا الهدى الصيادي الرفاعي وأخذ عنه الطريقة الرفاعية، ولحن له وغنى في أحد مجالس الطرب بيتين من الشعر ارتجلهما الصيادي في ساعته من مقام الحجاز كار هما:

قلت لما خفق القلب جوى حين شامت قرطك الخفاق عيني

كنت لا تملك إلا خافقاً فهنيئاً لك ملك الخافقين

التقى الموصلي أهل الطرب والموسيقيين الكبار مثل جميل بك الطنبوري، وسامي بيك، والمغنية التركية الشهيرة (نصيب) فلحن لها عدداً من الموشحات والأغنيات الغزلية، وسجل بصوته ـ من دون مرافقة موسيقية ـ على أسطوانات بعض الأناشيد الدينية والابتهالات، وعدداً من الأغنيات بالتركية والعربية بمصاحبة موسيقية من جميل بك الطنبوري.

سافر الموصلي إلى سورية عام 1906، فزار مدنها قبل أن يستقر في دمشق، ودعي إلى حضور ختان أولاد عبد الرحمن باشا اليوسف الأربعة، وقرأ أمام حشد كبير من وجهاء دمشق وأعيانها قصة المولد النبوي، أعقبها مرتجلاً أربع قصائد خص كل واحدة منها لولد من أولاد اليوسف، وختمها بقصيدة طويلة في مدح أبيهم، ثم انبرى إلى قانونه فعزف وغنى موشح ابن سهل:

يا ليالي الوصل في نادي الصفا هل لك اليوم من رجوع

فكافأه عبد الرحمن اليوسف بمئة ليرة ذهبية.

لم تقتصر إقامة عثمان الموصلي على الحفلات والدعوات، بل تعدتها إلى زيارة التكايا والزوايا الخاصة بالقادرية والرفاعية والجباوية والنقشبندية، ولاسيما المولوية التي ظل رئيسها في الموصل لغاية وفاته. وفي أثناء ذلك تتلمذ على يديه كثيرون من قراء دمشق، وظل كذلك إلى أن سافر إلى بيروت فأقام فيها ثلاثة أشهر نظم في أثنائها عدداً من القصائد وخمّس قصيدة البوصيري الشهيرة «جاء المسيح من الإله رسولا»، وسماها «الهدية الحميدية الشامية على القصيدة اللامية في مدح خير البرية» ومطلعها:

سجعت بلابل صحفه وترنحت سكرى عن أوصاف طه أفصحت

ظلمات نكر الخصم مهما لوحت فالأرض من تحميد أحمد أصبحت

وبنوره عرضاً تضيء طولاً

ثم سافر الموصلي إلى مصر والتقى فيها رجال الدين والأدباء والفنانين، وجرت بينه وبينهم مساجلات ودية وفنية، تحدث عنها الموسيقي كامل الخلعي في كتابه «الموسيقى الشرقية» معدداً بعض مآثره الدينية والموسيقية. وأخذ عنه القراء والفنانون أحكام التجويد، وبعض المقامات التركية وأوزانها وضروبها. واتصل به سيد درويش ودرس على يديه أصول تلحين الموشحات، إلى أن قفل عائداً إلى إصطنبول، التي غادرها في عهد السلطان رشاد عام 1912. ونزولاً عند رغبة عدد من وجهاء العراق وأعيانها الذين جاؤوا إلى إصطنبول لحضور اجتماعات «مجلس المبعوثين» منهم عميد أسرة الآلوسي، والشيخ يوسف السويدي، والشيخ إبراهيم الراوي (رئيس الطريقة القادرية) وغيرهم؛ عاد وأسرته إلى الموصل، ثم استقر في بغداد في جامع الصاغة إلى آخر حياته.

مؤلفاته

ألف عثمان الموصلي عدداً من الكتب ذات الموضوعات المختلفة منها كتاب «أبيض خواتم الحكم في التصوف»، وكتاب «الطراز المذهب في الأدب» وكتاب «نباتي» و«الأبكار الحسان» و«التوجع الأكبر بحادثة الأزهر»، إضافة إلى جمعه وتنقيحه ديوان الشاعر عبد الباقي الفاروقي «الترياق الفاروقي».

ألحانه

من أشهر ألحانه الدينية القصيدة التي نظمها عبد الباقي الفاروقي بمناسبة إهداء السلطان قطعة من قماش الستار النبوي لمرقد الإمام موسى بن جعفر الصادق في بغداد مطلعها:

وافتك يا موسى بن جعفر تحفة منها يلوح لنا الطراز الأول

قد جاوزت قبراً لجدك فاكتست مجداً له الخط السماك الأعزل

ولحن له أيضاً موشحاً يتألف من واحد وأربعين مقطعاً، جعل لكل مقطع منه نغمة ووزناً، المقطع الأول منه على مقام البياتي الشوري، ووزنه سماعي ثقيل، جعله بمنزلة مذهب يعاد غناؤه بعد كل مقطع:

من لعب كلما هبت صبا هب من رقدته في فزع

وإذا عن له برق أضا أسعر الأحشاء في نار الفضا

ومضه يحكي الحسام المنتضى.

كذلك لحن موشحاً صوفياً للشيخ مهدي الرواس من مقام السيكاه مطلعه:

أقلقت قلبي بالجفا يا أيها الظبي الجفول

بالله أنعم بالوفا فالشمس مالت للأفول

من وجهك الفجر استبان والخصر أبدى غصن بان

ارحم وجد فالصبر فان عني وجسمي في نحول

ولحّن في باب الغزل كثيراً من القصائد والموشحات منها قصيدة لـ«ابن النحاس» خمّسها ولحنها وغناها ومطلعها:

على ورد خديك آس أطل

فقلت قد اخضر روض الأمل

ومذ رمت أقطفه بالقبل

حميت الأسيل بحد الأثل

أجل، مالحا ظك إلا أجل.

وإضافة إلى هذا، لحن الموصلي وغنى عدداً كبيراً من الموالات و«البستات» ـ جمع بستة ـ (وهي كلمة فارسية تعني الأغنية الخفيفة «الطقطوقة» [ر. العربية (الموسيقى ـ)]. وقد جرت العادة أن يختتم المغني بها المقام العراقي (غير الديني)، وكان أسلوبه في التلحين يعتمد في بنائه على الإيقاع. وفي أثناء إقامته في إصطنبول أسس عثمان الموصلي مدرسة خاصة به، علَّم فيها علوم الموسيقى الشرقية والمقامات والأوزان والإيقاعات، والعزف بآلات القانون والناي والدفوف، وإنشاد الأدوار والموشحات والقدود.

مراجع

ـ سلمان شكر داود، محاضرة عن المقامات العراقية في المؤتمر الموسيقي (فاس ـ المغرب، نيسان 1969).

ـ أدهم الجندي، أعلام الأدب والفن (مطبعة مجلة صوت سورية، 1954).

ـ صالح المهدي، الموسيقى العربية (الدار التوفيقية للنشر، تونس 1979).

المصدر