الميتانيين

ميتاني Mitanni اسم لمملكة حورية، قامت في منطقة الخابور في شمال شرقي سورية في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. والحوريون من الأقوام الآسيوية القديمة، ولاتعد لغتهم من عائلة اللغات الهندية ـ الأوربية. واللغة الوحيدة التي يحتمل أن تكون لها صلة باللغة الحورية هي اللغة الأورارطية القديمة. على أن وجود الحوريين في بلاد الرافدين وسورية لم يكن طارئاً وإنما يعود تأريخهم في المنطقة إلى الألف الثالث قبل الميلاد، فأسماء الأعلام الحورية بدأت تظهر في النصوص المسمارية منذ عصر الدولة الأكدية وعصر سلالة أور الثالثة. وقد تبينّ أن أوركيش القديمة (تل موزان حالياً) كانت مركزاً لإمارة حورية قامت في منطقة الخابور في أواخر عصر الدولة الأكدية. ونحو عام 1800ق.م كوَّن الحوريون الأكثرية من سكان ألالاخ ( تل عطشانة حالياً) في شمال غربي سورية. وفي ذلك الوقت أيضاً كان للحوريين وجود واضح في شمال شرقي بلاد الرافدين، وعلى وجه التحديد في مدينة شوشرا (تل شمشارا حالياً) على الضفة اليمنى لنهر الزاب الأعلى. ويرجح أن يكون اسم حاكم هذه المدينة، الذي ورد بصيغة «كواري» Kuwari، في عهد الملك الآشوري شمشي ـ أدد الأول (1813ـ 1781ق.م) حوريا. وفي مدينة ماري (تل الحريري حاليا) ظهرت نصوص حورية مترجمة عن تعاويذ بابلية،وازداد الوجود الحوري في القرنين السابع عشر والسادس عشر قبل الميلاد في العراق وسورية، حيث أصبحت مدينة نوزي Nuzi (يورغان تبه Yorgan tepe حالياً قرب كركوك) مركزاً رئيسياً لهم يحمل اسم نوزي بدلاً من اسم غاسور Gasur الذي كان يطلق عليها في الألف الثالث قبل الميلاد. ومن المواقع الأخرى التي شهدت وجوداً حورياً في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد تبه كورا Tepe Gaura وتل بيلا في العراق (على بعد 15كم إلى الشمال الشرقي من نينوى)، ومسكنة (إيمار) وتل عطشانة (ألالاخ) في سورية.

دولة ميتاني

بدأت مرحلة تكون دولة ميتاني بعد اغتيال الملك الحثي مورشيلي الأول Mursili I، الذي بدأ حكمه نحو عام 1620ق.م، فمنذ ذلك الحين أخذ الحوريون والحثيون يتبادلون الغزوات عبر المنطقة الجبلية الفاصلة بين سورية وبلاد الأناضول. ويبدو أن نشوء ميتاني حينذاك كان قائماً على تحالف من عدة كيانات سياسية حورية، إذ إن المصادر الحثية كانت تشير إلى «أربعة ملوك حوريين». وفي مطلع القرن الخامس عشر قبل الميلاد ظهر اسم ميتاني أول مرة في نقوش المقابر المصرية، ومن المرجح أن هذا الاسم للمملكة الحورية اشتق من اسم علم ورد في نصوص نوزي بصيغة مايتّا Maitta. أما النصوص الآشورية فقد كانت تشير إلى هذه المملكة باسم خانيغَلبات Khanigalbat الذي ورد في النصوص البابلية بصيغة خابيغلبات Khabigalbat. وأوردت المصادر المصرية القديمة الاسم السوري لهذه المملكة، وهو نهارينا أو نهريما. وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف التسلسل الزمني لتأريخ ميتاني، تعرف في الوقت الحاضر أسماء ثلاثة عشر ملكاً حكموا فيها ما بين مطلع القرن الخامس عشر ومطلع القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وأول هؤلاء الملوك هو بارّاتارنا Barratarna، وآخرهم شاتّوارا Shattuara.

وسرعان ما تعاظمت قوة ميتاني وامتدت سلطتها غرباً إلى البحر المتوسط وشواطئه الشمالية حيث شملت المملكة الحورية الأخرى المنافسة لها هناك كِزّواتْنا Kizzuwatna كيليكيا Cilicia بحسب المصادر الكلاسيكية. وفي عام 1472ق.م استطاع أحد ملوك ميتاني الثلاثة الأوائل أن يواجه هجوماً، قاده الملك المصري تحتمس الثالث فتوقف الهجوم عند الضفة اليمنى لنهر الفرات. ومنذ الثلث الأخير من القرن الخامس عشر قبل الميلاد وقعت بلاد آشور تحت سيطرة ميتاني، حينذاك قام ملك ميتاني ساوشتاتار Saushtatar بنقل بوابة من الذهب والفضة من مدينة آشور ليزيّن بها قصره في العاصمة وشّوكانّي Washshukanni. وعلى الرغم من وجود ملوك آشوريين على العرش في فترة التبعية لميتاني فإنهم كانوا على درجة من الضعف بحيث لم يتركوا نصوصاً ملكية ذات شأن. وتتضمن النصوص الآشورية من تلك الفترة إشارات إلى وجود موظفين كبار في الدولة يحملون أسماءً حورية، وتقدم تلك النصوص أيضا أدلة على وجود وحدات حربية ميتانية مجهزة بعربات في بلاد آشور.

حين أخذت الدولة الحثية تزداد قوة في أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وأصبحت تهدد شمالي سورية أضحى واضحا للمملكتين الميتانية والمصرية أن تحالفا فيما بينهما سيكون في مصلحة الطرفين. وتشهد الرسائل التي بعث بها تحتمس الرابع إلى ملك ميتاني أرتاتاما الأول Artatama I على ذلك التقارب بين الدولتين، وتبع ذلك زواج الملك المصري من إحدى بنات ملك ميتاني. وقد استمرت السياسة المصرية بهذا الاتجاه في عهد أمنحوتب الثالث (1402ـ1363ق.م). وتذكر النصوص القديمة أن توشراتّا Tushratta ـ ملك ميتاني ـ قام بإرسال تمثال الإلهة عشتار مرتين إلى مصر تعبيراً عن رغبته في شفاء الملك المصري من المرض.

تاريخ ميتاني

يعود سبب الغموض الذي لم يزل يكتنف جوانب مهمة من تاريخ ميتاني ونشوئها إلى عدم اكتشاف سجلات محفوظة رئيسية لها حتى الوقت الحاضر، ومثل هذه السجلات لابد أن تكون موجودة ولكن لم تصل إليها التنقيبات الآثارية بعد، فما اكتشف من نصوص تلك المملكة حتى اليوم لا يزيد على نصوص قليلة متفرقة، وجد بعضها في موقع العمارنه في مصر وأخرى في موقعي ماري و أوغاريت. أما النصوص المكتشفة في موقع مدينة نوزي فيمكن أن تلقي ضوءاً على أحوال بلاد آشور تحت السيطرة الميتانية. وتميل آراء معظم الباحثين إلى تحديد موقع عاصمة ميتاني، وشّوكانّي في تل الفخيرية على الجانب الشرقي من أعالي الخابور في سورية. لم تجر تنقيبات آثارية متواصلة وشاملة في تل الفخيرية، وإنما أجريت تنقيبات مختصرة من قبل بعثة آثارية أمريكية في عام 1940م، وحفرت به بضعة مجسات عميقة لسبر طبقاته من قبل بعثة ألمانية في 1955ـ 1956م، وكان من نتائج تلك التنقيبات تحديد تأريخ الطبقة السابعة في الموقع إلى عصر دولة ميتاني. وفي عام 1979م أصبح مؤكدا أن تل الفخيرية هو موقع مدينة سكاني Sikani وذلك بدليل النص الآشوري ـ الآرامي المنقوش على تمثال هدد ـ يسعي، حاكم جوزانا (تل حلف حالياً). وهذا التمثال اكتشف صدفة في ذلك العام من قبل مزارع سوري في أطراف تل الفخيرية. أما مدينة سكاني فكانت معروفة من نصوص العصر الآشوري الحديث في الألف الأول قبل الميلاد، وقد استدل من تشابه اللفظ على أن هذا الاسم مشتق من اسم وشّوكانّي، وبالتالي عُدت المدينتان متطابقتين وعُد تل الفخيرية موقعاً لهما، ومما يؤيد هذه المطابقة أن الصيغة الآشورية لاسم وشّوكانّي هي أشّكاني Ashshukani, ومن المعروف أن حرف الشين المضعف يتحول إلى سين مخففة في نصوص العصر الآشوري الحديث، ويمكن إسقاط حرف الألف من أول الكلمة فتصبح سكاني.

الموقع الثاني المهم في منطقة ميتاني نفسها، في حوض الخابور هو تل موزان، موقع مدينة أوركيش القديمة، وهذه المدينة اشتهرت في الأساطير الحورية بكونها مقام الإله كوماربي Kumarbi، وهو إله المحاصيل الزراعية الحوري الذي كان يتطابق مع الإله أنليل Enlil في بوغازكوي Bõgaz Kõy ومع إيل ودغَن El, Dagan في أوغاريت. وقد أثبتت التنقيبات الآثارية أن السكنى في تل موزان بدأت في دور حلف نحو عام 6000ق.م، واستمرت حتى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. وكشف في هذا الموقع عن بيوت ومعبد وكذلك مخزن مع جناح سكني وجدت فيه نصوص مسمارية إدارية يتضمن بعضها أسماءً حورية.

استعمل ملوك ميتاني اللغة الأكدية في أغلب وثائقهم ورسائلهم إلى جانب بعض الرسائل والنصوص باللغة الحورية المدونة بالخط المسماري، وهناك بضعة نصوص حورية مدونة بالخط الأبجدي الأوغاريتي، ويميل أغلب الباحثين إلى أن كيان دولة ميتاني قام على أساس كونته طبقة حاكمة من النبلاء الحوريين تقودهم أقلية من الحكام الآريين، وهذا الرأي يستند إلى وجود أسماء آلهة وملوك ومصطلحات خاصة بتدريب الخيل تعود جميعها إلى أصول لغوية هندية ـ أوربية وليست حورية. ويتجسد الدور الحضاري للميتانيين في استيعابهم جوانب متعددة من التراث البابلي ونشره غرباً باتجاه الساحل الشرقي للبحر المتوسط ونقله على نحو غير مباشر إلى بلاد الإغريق. وكان هناك تأثير حضاري واضح لميتاني في الحضارة الحثية في بلاد الأناضول تفصح عنه النصوص الدينية، الأدبية والتاريخية الحثية.

يمكن تمييز خصائص الثقافة المادية لميتاني من خلال الفخار والأختام، وهناك من الباحثين من يعزو انتشار تقنيات صنع الزجاج في المنطقة في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد إلى الميتانيين، وقد اكتشفت أفضل مصنوعات زجاجية مبكرة في موقع نوزي. ومن إسهامات الميتانيين المهمة في المجال الحربي استعمال الخيول، فسواء كانوا هم الذين أدخلوا الخيول إلى المنطقة أم غيرهم لابد أن يعزى إليهم فضل الاستعمال الواسع والمتقن للخيول في الركوب وفي جر العربات، مع تكييف هذا الاستعمال ليلائم بيئة المنطقة. أما في مجال الديانة فقد انتشرت عبادة إله العاصفة الحوري تيشوب Tishub في سورية وبلاد الرافدين حيث وجد معبد له في نوزي، وعبد في منطقة ديالى باسم تشباك. واقتبس الحثيون عبادة هذا الإله من ميتاني وجعلوه رئيساً لمجمع آلهتهم في عصر الإمبراطورية الحديثة. وعبد الميتانيون أيضا الإلهة خيفا khepa التي عدوها زوجة لتيشوب. ومن آلهتهم ذات الأصول الهندية -الأوربية مِثراMithra، فارونا Varona، وأندرا Andra الذين عرفوا في عبادات الهند القديمة.

علامات الضعف

بدأت علامات الضعف بالظهور على ميتاني في أواخر عهد الملك تشراتّا، إذ ازدادت الدولة الحثية المنافسة قوة في عهد ملكها سوبيليليوما الأول Suppililiuma I الذي تمكن من الاستيلاء على كركميش نحو عام 1340ق.م، وفي الوقت نفسه أخذ الآشوريون يستعيدون قوتهم في عهد الملك إيريبا ـ أدد الأول (1392ـ 1366ق.م) وابنه آشور ـ أوبالّيط Assur-Uballit الأول. في ذلك الحين دبت الخلافات بين أعضاء الأسرة الحاكمة واغتيل تشراتّا على يد أحد أبنائه. وفي عهد الملك الآشوري أدد ـ نراري الأول (1307 ـ 1275ق.م) أصبحت ميتاني تابعة للدولة الآشورية، ولم تستطع مصر مساعدة حليفتها السابقة ميتاني بسبب الضعف الذي كانت تعانيه على أثر حركة أخناتون الدينية وما ترتب عليها من مشكلات داخلية. ومهد ذلك كله الفرصة للملك الآشوري شلمنصـر الأول (1274ـ 1244ق.م) لكي يوجه الضربة الأخيرة لميتاني ليلحقها بالدولة الآشورية ويهجّر 14400 نسمة من سكانها. أما بقية الحكام الميتانيين فقد انسحبوا إلى الشمال الشرقي حيث المناطق الجبلية المحيطة ببحيرة وان. وهناك أنشؤوا مملكة صغيرة عرفت باسم حوري Hurri التي أصبحت نواة لدولة أورارطو Urartu في الألف الأول قبل الميلاد.

المصدر

انظر أيضا