تاريخ

الخيزران بنت عطاء

تلقب بـ»أم الخلافة العباسية»، لأن من نسلها جاء كل الخلفاء العباسيين.. عُرِفت بالحظوة في عهد زوجها الخليفة المهدي وتميّزت بالذكاء الحاد والسطوة والشخصية القوية.. إنها الخيزران بنت عطاء. بعد وفاة زوجها المهدي، أصبح نفوذها في دواليب الحكم في خطر بسبب ابنها موسى الهادي، فدار بينهما صراع لمدة سنة كاملة، انتهى بوفاة هذا الأخير وتولي شقيقه هارون الرشيد زمام السلطة. حامت الكثيرُ من الشبهات عن دور الخيزران في ظروف الوفاة الغامضة، هل قضت على ابنها موسى الهادي من أجل تعبيد الطريق للآخر، هارون الرشيد؟ قدّم المؤرخون معطيات تؤكد أن الصراع بين موسى الهادي ووالدته كان شعاره «قاتلا أو مقتولا»، لكنّ آخرون يؤكدون أن وفاته كانت طبيعية وأن ضلوع والدته في قتله مجرد رواية مُلفـّـَقة.

صراع خفـيّ

اختلف المؤرخون في أصلها، فمن قائل إنها يمانية من بلدة جرش، في جنوب عسير، وهناك من ينسبها إلى الأمازيغ من المغرب، والثابت أنها كانت جارية عند المهدي، أعتقها وتزوجها، بعد أن وقع في غرامها. كانت الخيزران رائعة الجمال، دقيقة القوام، طاغية الأنوثة، راجحة العقل. وكانت أثيرة عند الخليفة المهدي ومُقـدَّمة على نسائه وكانت مسموعة الكلمة عنده، ولها دالة واسعة عليه ولم تلد امرأة خليفتين غيرُها.. فعلى غير عادة العرب، نجحت الخيزران في إقناع زوجها بتعيين ولديها وريثين شرعيَّـيْن له واستبعاد أبناء النساء الأخريات، وخاصة أبنائه من ابنة عمه الخليفة السفاح.

جعلها «تدليل» الخليفة المهدي لها من ربّات السياسة والنفوذ والسلطان، ولم يكن ابنها الهادي، وليّ العهد، يرتاح إلى هذا الوضع، ولم يكن ذلك خافيا عليها. كان موسى الهادي متيقظا، غيورا، شديد البطش، ذا إقدام وعزم. لذا كان من المنتظر أن تفقد الكثير من نفوذها الذي تعودت عليه إذا ما تولى الخلافة بعد أبيه..

بلغ الصراع الخفيّ بين الخيزران وابنها الهادي أوجَه حين استغلـّت نفوذها لتـُقنع زوجها المهدي بتقديم ابنها الثاني هارون الرشيد في ولاية العهد، لأن الرشيد كان أكثرَ طاعة لها من الهادي.. في محرم 169هجرية، رأى المهدي بتنفيذ رأي الخيزران وتقديم الرشيد على الهادي، لكن موت المهدي بطريقة غامضة جعل الأمور تبقى على حالها.

حاولت الخيزران أن تمارس نفس الدور في عهد ولدها الهادي، فأبدى لها الكثير من الطاعة، مجيبا لها في ما تسأله من حوائج في الأشهر الأربعة الأولى من خلافته، فكانت المواكب لا تخلو من بابها طمعاً.. كانت تفتي عليه في أموره وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، إلا أن ذلك لم يرق للهادي، الذي أراد كبح سطوة والدته، وما لبث أن ثار على ذلك الوضع ولم يحتمله فقال لها: إنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك!..

لكن المواكب التي اعتادت الوقوف في باب الخيزران استمرّت في التوافد عليها، واستمر أصحاب الحاجات يطرقون بابها لتتوسط لهم، بنفوذها.. فلجأت الخيزران إلى ابنها تكلـّمه في قضاء بعض الأمور، فرفض وغضب غضباً شديداً وأقسم بأغلظ أيمانه ألا يُلبيَّ لها أمرا، بل وأن يضرب عنق كل من وقف في بابها وقبض ماله وخطابها قائلا: «أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يُذكـّرك أو بيت يصونك؟!.. ثم إياك وإياك، إن فتحت بابك لمسلم أو ذمي!».. فانصرفت الخيزران عنه، وما تعلم كيف تسير، وقاطعتـْه بعدها فلم تـُكلـّمه، خاصة بعد أن بلغها أنه حذر رجالات دولته من الوقوف في بابها.

قاتل أو مقتول

يؤكد بعض المؤرخين أن محاولة الهادي خلع شقيقه هارون الرشيد من ولاية العهد وإسنادها إلى ابنه الصغير جعفر شكـّلت بداية صراع علنيٍّ بين الأم والابن.. تحرّكت من أجل درء هذا الخطر عن الرشيد.. بلغ حقد موسى الهادي على أمه الخيزران مبلغا عظيما، فبعث إليها الهادي بطعام تحبّه كان مسموما، مع رسالة منه إليها تقول إنه استطاب ذلك الطعام فأحبّ أن تأكل أمه منه.. وكانت على وشك أن تأكل، لولا أن جاريتها «خالصة» حذرتها، وربما تذكرت المصيرَ الغامض للخليفة المهدي من قبل، وجاؤوا بكلب أكل من ذلك الطعام فتساقط لحمه ومات!..

تأتى فعلة موسى الهادي لتوقد فيها جذوة الحقد والانتقام ولتجعل الخيزران تقتنع بأنها إذا لم تقتل الهادي فإن الأخيرَ سيقتلها وربما يقتل أخاه الرشيد أيضاً، خاصة أن تآمر الهادي لم ينقطع عن أخيه. استخدمت الخيزران سلاح المال فدسّت بعض الجواري فقتلن ابنها الهادي خنقاً وهو نائم، وقيل إنها قتلته بنفس السلاح، وهو دس السم في الطعام، وبذلك انتهت المعركة السياسية بينهما. يؤكد بعض المؤرخين أنها عندما تخلصت من عدوها اللذود الذي كان في ما مضى فلذة كبدها وأحَبَّ الخلق إليها، أتاها رسول ليخبرها بوفاة ابنها فقالت في هذه الليلة يموت خليفة ويملك خليفة ويولـَد خليفة، و في نفس الليلة ولـِّيَّ هارون الرشيد خليفة واستمتعت الخيزران بنفوذها في خلافته..

روايـة مغـايـرة

يؤكد بعض المؤرخين أن محاولة الهادي تسميم أمه صعبة التصديق وتنبع عدم واقعيتها من أنه لا يتجرأ شخص على قتل أمّه مهْما بلغ الأمر بينهما، من جهة، ثم إن العرب يستهجنون الرجل إذا قتل امرأة ولو في ساحة القتال.. فكيف لا يخاف الهادي على سمعته من هذا التصرف الشنيع؟.. بخصوص رواية يد الخيزران في قتل ابنها فإنّ بعض المؤرخين يكذبونها ويتساءلون: كيف لأمّ، مهما بلغ غضبها من ابنها، أن تقوم بقتله ولا تـُظهر أي حزن عليه، بعد أن بلغ نبأ وفاته؟.. ويذهب هؤلاء إلى أن وفاة موسى الهادي، الذي حكم مدة عام وشهرين، كانت طبيعية وأن كل الروايات حول ضلوع الخيزران مُلفـّـَقة، بعدما علم الناس بتوتر العلاقة بين الأم والابـن.

وفاتها

توفيت (الخيزران) ليله الجمعة سنة 173هـ. وقد صلى عليها( الرشيد)، وعندما خرج ُوضع له كرسي ليجلس عليه، فدعا (لفضل بن الربيع) ودفع إليه الخاتم قائلا: كنت أهم أن أوليك فتمنعي أمي فأطيعها.

المصدر